فلسطين

jojo

عضو جديد
شرح قصيدة رثاء البصرة

clapclapلقد كان المصاب الذي حلّ بمدينة البصرة ذا وقع كبير على نفس ابن الرومي ، الذي رأيناه حاضراً على امتداد القصيدة بشعوره ووجدانه .
ويمكن رصد تجليات الأنا ضمن محطات متنوعة هي :
1_قلق الذات وحزنها:
إن دخول الزنج مدينة البصرة ترك أثراً عميقاً في وجدان ابن الرومي ، مما دفعه منذ مطلع القصيدة أن يبث حديث النفس الداخلي بكلمات تنبثق من ذاته ومشاعره الصادقة تجاه ما أصاب مدينة البصرة وأهلها .
إذ قال :
ذادَ عن مُقْلِتي لذيذَ المنامِ شُغلها عنهُ بالدموعِ السجامِ
وفي هذا البيت يَظهَر حزن ابن الرومي ، الذي عبر عنه بصدق عميق ظهر من خلال المصدر الذي انبثق عنه وهو الوجدان والذات (مقلتي/أنا) ، ومما عمقّ صدق الإحساس أنه لم يكن بالبصرة ، وأن عينه التي كانت تذرف الدموع لم ترَ ما حلّ بالبصرة عياناً ،ولكن نفسه الشفافة دعته بأن يحضر مع البصرة وأهلها بعاطفته وشعوره الداخلي ،وأن يعيش الحدث وكأنه عاينه .
2_تلهف الذات على البصرة وما حل بها :
يطلق الشاعر صرخة داخلية ، ينفس من خلالها عن أوجاع نفسه ، التي كانت تتقطع حزناً وألماً على ما حلّ بالبصرة ، ولأن وجع الشاعر كان كبيراً نراه يعبر بأنه يريد للهفته أن تبقى على مدى الأعوام علَ الهم العنقودي المتراكم يخفف وطأته على ذاته المجروحة .

إذ قال ابن الرومي :
لهفَ نفسي عليكِ أيَّتُها البص رةُ لهفاً كمثل لهب الضِّرام
لهف نفسي عليك يا معدن الخي رات لهْفاً يُعضُّني إبهامي
لهف نفسي يا قُبَّةَ الإس لام لهفاً يطولُ منه غرامي
لهف نفسي عليكِ يا فُرضةَ البل دانِ لهفاً يبْقى على الأعوام
لهف نفسي لجمعكِ المتفاني لهف نفسي لِعِزِّكِ المُستضام
إن هذا الحضور اللافت لذات الشاعر بهذا المقطع لدليل على أن الشاعر موجوع من داخله ، وأن عاطفته ومشاعره فاضت بهذا الوجع ، وما أوقد بنفسه هذه اللهفة عظم الملهوف عليه (مدينة البصرة، معدن الخير ، قبة الإسلام ، فرضة البلدان ) .
ويظهر الشاعر إضافة إلى تلهفه نوعاً من الندم حينما يقول (لهفاً يُعضُّني إبهامي ).
3_ذكرى الذات لمدينة البصرة:
ما فعله الزنوج بالبصرة لاينسى ، وستبقى الذكرى حاضرة في نفس الشاعر ، الذي فاضت عاطفته وأضرم قلبه حرقة ووجعاً وألماً ، لما حلّ بالبصرة من ذل وهوان على أيدي الزنوج.
قال:
ما تذكرتُ ما أتى الزنج إلا أُضرم القلب أيّما إضرام
ما تذكرتُ ما أتى الزنج إلا أوجعَتْني مرارةُ الإرغام
فمجرد الذكرى لما فعله الزنوج كفيل بأن يشعل القلب وجعاً وحرقة ، ذلك لأن إهانتهم وإرغامهم لأهل البصرة بعد عزهم يوجع القلب ويبث مرارة النفس.

4_الفداء والتضحية :
إن الشاعر لم يقف صامتاً اتجاه ما حلّ بالبصرة ، فهو حينما يستحضر جرائم الزنج ، ولا سيما مشهد الجثث المترامية ، والوجوه التي ملئت بالدماء ،فإنه يحلف بتلك الوجوه بما يشي بثورة تنطلق من تلك الذات تكريماً لتلك الوجوه وانتقاماً لها إذ قال :
ووجوهٍ قد رمَّلتْها دماءٌ بأبي تلكمُ الوجوه الدوامي
5_الندم والشعور بالتقصير :
لطالما انتاب ابن الرومي الشعور بالذنب تجاه ما حلّ بالبصرة، وهو لا يفرغ نفسه من المسؤولية ،والدليل عى هذا ما أقره من ندم ، واستحياء.
إذ قال:
وا ندامي على التَّخلُّفِ عنهمْ وقليلٌ عنهُم غَناء نِدامي
وا حيائي منهُمْ إذا ما التقينا وهُمُ عند حاكم الحُكّام
وا حيائي من النَّبيِّ إذا ما لامني فيهم أشدَّ الملام
فهو يندم على تخلفه عن أخوته في البصرة ، ويرى أن هذا الندم لا يجدي إزاء الهنات العظيمة التي حلت بأهل البصرة .
ويبدي الشاعر حياءه من رب العباد ، ويستحضر مشهد الحساب ، ويرى نفسه متورطاً يوم الحساب بالجواب عن سبب تخاذله وتوانيه عن إخوانه .
ويمتد الشاعر بحيائه إلى النبي المرسل، وهذا الندم والحياء لدليل قوي على تعلق ابن الرومي بالقضية ، وهذا التعلق والارتباط هو الذي دفعه للندم.

ب_ مدينة البصرة( المكان ،الذاكرة):
لقد كان قلب الشاعر ينبض بعاطفتين تجاه مدينة البصرة هما:
_عاطفة الحنين إلى البصرة المدينة الزاهية قبل أن يجتاحها الزنوج ، وتتمثل هذه العاطفة بحديثه عن ذكرى المكان الماضية.
_عاطفة الحزن والأسى على البصرة المقفرة بعد أن اجتاحها الزنوج ، وتظهر هذه العاطفة من خلال حديثه عن الواقع الحاضر لمدينة البصرة .
وقد تمتزج العاطفتان ، فيختلط المكان بالذاكرة .
1_مدينة البصرة قبل دخول الزنوج إليها ( الذكرى) :
تساءل الشاعر عن مظاهر الحياة التي كانت تعم في أرجاء البصرة ، من أسواق ، وخلق ، وازدهار تجاري ، وحضارة معمارية كالقصور والبنيان المحكمة البناء ، وقد استدعى صاحباه مخاطباً لهما ليشاركاه الحديث عن مظاهر الحضارة التي كانت للبصرة قبل أن يحلّ الزنوج بها ويقلبوا تلك الحضارة إلى ركام من الرماد وجثث هامدة ،فقال :
عرِّجا صاحبيَّ بالبصرةِ الزَّهْ راء تعريج مُدنفٍ ذي سقام
أين ضوضاءُ ذلك الخلقِ فيها أين أسواقُها ذواتُ الزِّحام
أين فُلْكٌ فيها وفُلْكٌ إليها مُنشآتٌ في البحر كالأعلام
أين تلك القصورُ والدورُ فيها أين ذاكَ البنيانُ ذو الإحكام
2_ مدينة البصرة بعد دخول الزنوج إليها (المكان)
صور ابن الرومي دخول الزنوج إلى البصرة ، وكيف أن لونهم الأسود جعلهم يضفون السواد والظلام على مدينة البصرة فهم كقطع الليل الحالك الشديد الظلام ، وفي هذا التشبيه دلالة عرقية تظهر كيف أن تلك الطبقة كانت مدانة للونها الأسود .
قال ابن الرومي :
دخلوها كأنهم قِطع اللْي لِ إذا راحَ مُدْلَهِمَّ الظلام
وانتقل ابن الرومي ليصف وجعه الذاتي ، إذ نفى عن نفسه أسباب الراحة بعدما انتهك الزنوج جهراً محارم الإسلام ، من أرض ، ونفس ..فقال:
أيُّ نومِ من بعد ما حل بالبصْ رَةِ من تلكمُ الهناتِ العظام
وقد استنكر ابن الرومي فعل الزنوج ووصفهم بأقبح الصفات وهي : الخيانة ، فهو لم يسوغ كما فعل الخريمي من قبله دخولهم وفعلهم القبيح.
قال :
أقدم الخائنُ اللعينُ عليها وعلى الله أيَّما إقدام
وبعد ذلك كان لا بد لابن الرومي أن يكشف عن الجرائم التي ارتكبها الزنج ، إذ هدموا المكان وأحرقوه ، وقتلوا أهله ، حتى تحولت البصرة إلى ديار يستنكرها الزوار ، إذ أصبحت قفراً لا حضارة فيها ولا سكان، قال:
سُلِّطَ البَثْقُ والحريقُ عليهم فتداعت أركانُها بانهدامِ
وخلتْ من حُلولها فهْي قَفْرٌ لا ترى العين بين تلك الأكام
3_مدينة البصرة (الذكرى/المكان ) :
لعل هذه اللوحة هي أشد اللوحات دلالة على التحول الكبير والمفاجىء الذي حلّ بالبصرة ، مما يعمق الحزن والأسى والتحسر ، في هذه النقلة الكبيرة ، التي وازى فيها ابن الرومي بين ماضي البصرة ، وحاضرها بعدما دخلها الزنوج وعاثوا فيها فساداً وتدميراً.
ويمكن تمثيل هذا التحول من خلال الحديث عن ذكرى ابن الرومي للمكان ، والمكان بعد تحوله حينما دخله الزنوج .
...


أخيراً يمكن القول إن حضور الأنا المشاركة (ذات الشاعر) على امتداد القصيدة، وتكرار الألم النفسي والذاتي ، وإلحاح الذاكرة على استدعاء حاضر البصرة الزاهر ، واستنكار جرائم الزنج ، لشاهد على حضور الموقف وتداعياته على نفس ابن الرومي بشدة ، من هنا كانت عاطفته صادقة ، الأمر الذي يدعونا نطمئن حينما ندرج هذه القصيدة تحت باب ( رثاء المدن)
 
أعلى